الرفض الراسخ للحضارة في كتاب أميل( لجان جاك روسو) ورواية بول وفرجيني (لبيرناردان دو سان بيير) :

الملخص

         يعدّ جان جاك روسو من أعظم المفكرين الفرنسيين، بل العالميين الذين تركوا بصمة كبيرة في تاريخ الأدب والفلسفة العالمية من خلال كتاباته المهمة التي تناولت موضوعاتٍ تمَسُّ عمق المشاعر والمبادئ الانسانية بشكل عام. يجد الباحث في مؤلفاته المتنوعة (الفكرية، والفلسفيه، والرومانسية، والتنظيرية، الخ...) كثيراً من النظريات التي تهتم بالمصير الإنساني، ووضع الإنسان المادي والأخلاقي؛ لذلك واجهَ جان جاك روسو الانسان، كثيراً من المشاكل والصعوبات التي منعته من الاندماج في المجتمع على عكس كثيرٍ من أقرانه أمثال فولتير وديدرو؛ لأن هذا الفيلسوف كان يملك من الجرأة والشجاعة اكثر من غيره ، تينِك اللتين كانتا تدفعانه الى توجيه انتقادات لاذعه ضد الانحراف المجتمعي والاخلاقي في عصره.

      إنّ المسارَ الذي اتخذه روسو أثر على نحو سلبي في علاقاته الاجتماعية.؛ لذلك أصبح هذا الفيلسوف يحب الانعزال والابتعاد عن الآخرين بسبب شعوره بالوحدة وبالغربة وسط هذا المجتمع الذي لا يقبل أن تكشف له سلبياته. لكن في المقابل، ظهر جيل من الكتاب والمفكرين الذين تبنوا فكر هذا الفيلسوف في نهاية القرن الثامن عشر، وعمدوا إلى السير على النهج نفسه حاملين المبادئ ذاتها. من بين هؤلاء الكتاب المفكرين نجد برناردان دو سان بيير الذي يعدّ تلميذا لروسو بسبب قوة تأثره بأفكاره وفلسفته.

     إنّ إخضاعَ الحضارة الاوربية الى النقاش، وإعادةَ تقويمِ سلوك أفرادها كان من بين أهمِّ أهداف هذين المفكرين ،إذ  كان كلاهما يتناول المجتمع الأوربي بأسلوب نقدي مباشر من خلال أعماله الأكثر أهميةً. بل عِمد كلاهما بالمقابل إلى نشر الدعوة الى الوحدة والانعزال في الطبيعة من أجل تجنب فساد ضمير الانسان في حال مخالطته هذا المجتمع الحضري.  يظنُّ هؤلاء الكتاب المفكرون أن المجتمع يمكنه أن يدمر الروح الانسانية للفرد.؛ لذلك يقترح كلاهما عالما أنموذجيا لا نجد فيه سوى النقاء والعفة من خلال الصورة البريئة للشخصيات الرئيسة التي تسكن الريف في كتاباتهم.  في العملين الأدبيين اللذين اخترناهما (بول وفيرجيني) لبرناردان دو سان بيير ، و (اميل) لجان جاك روسو. يؤكد  كلا الكاتبين  وجود السعادة الانسانية في مثل تلك الظروف.  من خلال دراسة هذين العملين الأدبيين، نجد أنّ الدعوةَ الى الانعزال لا تحمي الانسان من الانحراف ،أو ايجاد السعادة من خلال التناغم مع الطبيعة فقط ، لكنها تؤدي بكل تأكيد الى اكتشاف أسرار الذات والشخصية الانسانية. إذ يؤكد هؤلاء المفكرون أنّ صخب الحياة في المجتمع له جوانب سلبية كثيرة، وربما أولها عدم قدرة الانسان على التركيز على معني وجوده. في حين أن هدوء الحياة الريفية له كثيرٌ من الإيجابيات ومنها الجو الهادئ الذي يمكّن الفرد من التعمق في أسرار وجوده ، واكتشاف حقائق جديدة عن حياته وعن الكون الذي يحيطه.

      إنّ الهدف الأساسيَّ الذي يدفع هؤلاء المفكرين إلى تناول مثل هذه الموضوعات هو بكل تأكيد رغبتهم بتقديم خدمة الى الانسانية وإغنائها ببحوث تسهم في تطوير واقعهم. إنَّ هذا الهدف السامي من شأنه أن يرفعَ من قدرهم ؛ لذلك نجد إلى يومنا هذا الكثير من الباحثين الذين يهتمون بدراسة فكر هؤلاء الكتاب المتنورين وفلسفتهم. لقد حاول البحث الذي نقدمه هنا أن يسلط الضوء على هذه الزاوية المهمة من الوجود الانساني لاسيما أننا  نعيش  اليومَ في عالم مليء بالمشاكل والتناقضات. فمن الضروري أن يعمدَ الإنسانُ إلى أن يجد لنفسه وقفةَ تأمّل لمراجعة أسرار وجوده وأهداف حياته.